فصل: تفسير الآيات (88- 89):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (88- 89):

{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)}
لما بالغ موسى عليه السلام في إظهار المعجزات وهم مصرون على العناد واشتد أذاهم عليه وعلى من آمن معه، وهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفراً، وعلى الإنذار إلا استكباراً. أو علم بالتجربة وطول الصحبة أنه لا يجيء منهم إلا الغي والضلال، أو علم ذلك بوحي من الله تعالى، دعا الله تعالى عليهم بما علم أنه لا يكون غيره كما تقول: لعن الله إبليس وأخزى الكفرة. كما دعا نوح على قومه حين أوحى إليه {أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} وقدم بين يدي الدعاء ما آتاهم الله من النعمة في الدنيا وكان ذلك سبباً للإيمان به ولشكر نعمه، فجعوا ذلك سبباً لجحوده ولكفر نعمه. والزينة عبارة عما يتزين به ويتحسن من الملبوس والمركوب والأثاث والمال، ما يزيد على ذلك من الصامت والناطق. قال المؤرخون والمفسرون: كان لهم فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن الذهب والفضة والزبرجد والياقوت. وفي تكرار ربنا توكيد للدعاء والاستغاثة، واللام في ليضلوا الظاهر أنها لام كي على معنى: آتيتهم ما آتيتهم على سبيل الاستدراج، فكان الإتيان لكي يضلوا. ويحتمل أن تكون لام الصيرورة والعاقبة كقوله: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً} وكما قال الشاعر:
وللمنايا تربي كل مرضعة ** وللخراب يجد الناس عمراناً

وقال الحسن: هو دعاء عليهم، وبهذا بدأ الزمخشري قال: كأنه قال ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال، وليكونوا ضلالاً، وليطبع الله على قلوبهم فلا يؤمنوا. ويبعد أن يكون دعاء قراءة من قرأ ليضلوا بضم الياء، إذ يبعد أن يدعو بأن يكونوا مضلين غيرهم، وهي قراءة الكوفيين، وقتادة والأعمش، وعيسى، والحسن، والأعرج بخلاف عنهما. وقرأ الحرميان، والعربيان، ومجاهد، وأبو رجاء، والأعرج، وشيبة، وأبو جعفر، وأهل مكة: بفتحها. وقرأ الشعبي بكسرها، ولى بين الكسرات الثلاث. وقيل: لا محذوفة، التقدير لئلا يضلوا عن سبيلك قاله: أبو علي الجبائي. وقرأ أبو الفضل الرقاشي: أإنك آتيت على الاستفهام. ولما تقدم ذكر الأموال وهي أعز ما ادخر دعا بالطموس عليها وهي التعفية والتغيير أو الإهلاك. قال ابن عباس، ومحمد بن كعب: صارت دراهمهم حجارة منقوشة صحاحاً وأثلاثاً وأنصافاً، ولم يبق لهم معدن إلاطمس الله عليه فلم ينتفع بها أحد بعد. وقال قتادة: بلغنا أن أموالهم وزروعهم صارت حجارة. وقال مجاهد وعطية: أهلكها حتى لا ترى. وقال ابن زيد: صارت دنانيرهم ودراهمهم وفرشهم وكل شيء لهم حجارة. قال محمد بن كعب: سألني عمر بن عبد العزيز فذكرت ذلك له، فدعا بخريطة أصيبت بمصر فأخرج منها الفواكه والدراهم والدنانير، وأنها الحجارة. وقال قتادة، والضحاك، وأبو صالح، والقرطبي: جعل سكرهم حجارة.
وقال السدي: مسخ الله الثمار والنخل والأطعمة حجارة. وقال شيخنا أبو عبد الله محمد بن سليمان المقدسي عرف بابن النقيب وهو جامع كتاب التحرير والتحبير في هذا الكتاب: أخبرني جماعة من الصالحين كان شغلهم السياحة أنهم عاينوا بجبال مصر وبراريها حجارة على هيئة الدنانير والدراهم، وفيها آثار النقش، وعلى هيئة الفلوس، وعلى هيئة البطيخ العبد لاويّ، وهيئة البطيخ الأخضر، وعلى هيئة الخيار، وعلى هيئة القثاء، وحجارة مطولة رقيقة معوجة على هيئة النقوش، وربما رأوا على صورة الشجر. واشدد على قلوبهم: وقال ابن عباس ومقاتل والفراء والزجاج اطبع عليها وامنعها من الإيمان. وقال ابن عباس أيضاً والضحاك: أهلكهم كفاراً. وقال مجاهد: اشدد عليها بالضلالة. وقال ابن قتيبة: قس قلوبهم. وقال ابن بحر: اشدد عليها بالموت. وقال الكرماني: أي لا يجدوا سلواً عن أموالهم، ولا صبراً على ذهابها. وقرأ الشعبي وفرقة: اطمُس بضم الميم، وهي لغة مشهورة. فلا يؤمنوا مجزوم على أنه دعاء عند الكسائي والفراء، كما قال الأعشى:
فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ** ولا تُلْفينّ إلا وأنفك راغم

ومنصوب على أنه جواب اشدد بدأ به الزمخشري، ومعطوف على ليضلوا على أنه منصوب قاله: الأخفش وغيره. وما بينهما اعتراض، أو على أنه مجزوم على قول من قال: إن لام ليضلوا لام الدعاء، وكان رؤية العذاب غاية ونهاية، لأن الإيمان إذ ذاك لا ينفع ولا تخرج من الكفر، وكان العذاب الأليم غرقهم. وقال ابن عباس: قال محمد بن كعب: كان موسى يدعو وهارون يؤمن، فنسبت الدعوة إليهما. ويمكن أن يكونا دعوا، ويبعد قول من قال: كنى عن الواحد بلفظ التثنية، لأن الآية تضمنت بعد مخاطبتهما في غير شيء. وروي عن ابن جريج، ومحمد بن علي، والضحاك: أن الدعوة لم تظهر إجابتها إلا بعد أربعين سنة، وأعلما أن دعاءهما صادف مقدوراً، وهذا معنى إجابة الدعاء. وقيل لهما: لا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون أي في أن تستعجلا قضائي، فإن وعدي لا خلف له. وقرأ السلمي والضحاك: دعواتكما على الجمع. وقرأ ابن السميقع: قد أجبت دعوتكما خبراً عن الله تعالى، ونصب دعوة والربيع دعوتيكما، وهذا يؤكد قول من قال: إن هارون دعا مع موسى. وقراءة دعوتيكما تدل على أنه قرأ قد أجبت على أنه فعل وفاعل، ثم أمرا بالاستقامة، والمعنى: الديمومة عليها وعلى ما أمرتما به من الدعوة إلى الله تعالى، وإلزام حجة الله. وقرأ الجمهور: تتبعان بتشديد التاء والنون، وابن عباس وابن ذكوان بتخفيف التاء وشد النون، وابن ذكوان أيضاً بتشديد التاء وتخفيف النون، وفرقة بتخفيف التاء وسكون النون، وروى ذلك الأخفش الدمشقي عن أصحابه عن ابن عامر، فأما شد النون فعلى أنها نون التوكيد الشديدة لحقت فعل النهي المتصل به ضمير الاثنين، وأما تخفيفها مكسورة فقيل: هي نون التوكيد الخفيفة، وكسرت كما كسرت الشديدة. وقد حكى النحويون كسر النون الخفيفة في مثل هذا عن العرب، ومذهب سيبويه والكسائي أنها لا تدخل هنا الخفيفة، ويونس والفراء يريان ذلك. وقيل: النون المكسورة الخفيفة هي علامة الرفع، والفعل منفي، والمراد منه النهي، أو هو خبر في موضع الحال أي: غير متبعين قاله الفارسي. والذين لا يعلمون فرعون وقومه قاله: ابن عباس. أو الذين يستعجلون القضاء قبل مجيئه، ذكره أبو سليمان.

.تفسير الآيات (90- 92):

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)}
قرأ الحسن وجوَّزنا بتشديد الواو، وتقدّم الكلام في الباء في ببني إسرائيل، وكم كان الذين جازوا مع موسى عليه السلام في سورة الأعراف. وقرأ الحسن وقتادة فاتبعهم بتشديد التاء. وقرأ الجمهور: وجاوزنا فاتبعهم رباعياً، قال الزمخشري: وليس من جوز الذي في بيت الأعشى:
وإذا تجوزها جبال قبيلة

لأنه لو كان منه لكان حقه أن يقال: وجوزنا ببني إسرائيل في البحر كما قال:
كما جوز السبكي في الباب فينق

وقال الحوفي: تبع واتبع بمعنى واحد. وقال الزمخشري: فاتبعهم لحقهم، يقال: تبعه حتى اتبعه. وفي اللوامح: تبعه إذا مشى خلفه، واتبعه كذلك، إلا أنه حاذاه في المشي واتبعه لحقه، ومنه العامة يعني: ومنه قراءة العامة فاتبعهم وجنود فرعون قيل: ألف ألف وستمائة ألف. وقيل: غير ذلك. وقرأ الحسن: وعدوا على وزن علو، وتقدمت في الإنعام. وعدوا وعدوّا من العدوان، واتباع فرعون هو في مجاوزة البحر. روي أن فرعون لما انتهى إلى البحر فوجده قد انفرق ومضى فيه بنو إسرائيل قال لقومه: إنما انفلق بأمري، وكان على فرس ذكر فبعث الله إليه جبريل عليه السلام على فرس أنثى، ودنوا فدخل بها البحر ولج فرس فرعون ورآه وجنب الجيوش خلفه، فلما رأى أنّ الانفراق ثبت له استمر، وبعث الله ميكائيل عليه السلام يسوق الناس حتى حصل جميعهم في البحر فانطبق عليهم. وقرأ الجمهور: أنه بفتح الهمزة على حذف الباء. وقرأ الكسائي وحمزة: بكسرها على الاستئناف ابتداء كلام، أو بدلاً من آمنت، أو على إضمار القول أي: قائلاً إنه. ولما لحقه من الدهش ما لحقه كرر المعنى بثلاث عبارات، إما على سبيل التلعثم إذ ذلك مقام تحار فيه القلوب، أو حرصاً على القبول ولم يقبل الله منه إذ فاته وقت القبول وهو حالة الاختيار وبقاء التكليف، والتوبة بعد المعاينة لا تنفع. ألا ترى إلى قوله تعالى: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده} وتقدم الخلاف في قراءة آلآن في قوله: {آلآن وقد كنتم} والمعنى: أتؤمن الساعة في حال الاضطرار حين أدركك الغرق وأيست من نفسك؟ قيل: قال ذلك حين ألجمه الغرق. وقيل: بعد أنْ غرق في نفسه. قال الزمخشري: والذي يحكى أنه حين قال: آمنت، أخذ جبريل من حال البحر فدسه في فيه، فللغضب في الله تعالى على حال الكافر في وقت قد علم أن إيمانه لا ينفعه. وأما ما يضم إليه من قولهم خشيت أن تدركه رحمة الله تعالى فمن زيادات الباهتين لله تعالى وملائكته، وفيه جهالتان: إحداهما: أنّ الإيمان يصح بالقلب كإيمان الأخرس، فحال البحر لا يمنعه. والآخر: أن من كره الإيمان للكافر وأحب بقاءه على الكفر فهو كافر، لأنّ الرضا بالكفر كفر.
والظاهر أن قوله: آلآن إلى آخره من كلام الله له على لسان ملك. فقيل: هو جبريل. وقيل: ميكائيل. وقيل: غيرهما، لخطابه فاليوم ننجيك. وقيل: من قول فرعون في نفسه وإفساده وإضلاله الناس، ودعواه الربوبية. {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كان يفسدون} فاليوم ننجيك الظاهر أنه خبر. وقيل: هو استفهام فيه تهديد أي: أفاليوم ننجيك؟ فهلا كان الإيمان قبل الإشراف على الهلاك، وهذا بعيد لحذف همزة الاستفهام ولقوله: لتكون لمن خلفك لآية، لأنّ التعليل لا يناسب هنا الاستفهام. قال ابن عباس: ننجيك نلقيك بنجوة من الأرض وهي المكان المرتفع، وببدنك بدرعك، وكان من لؤلؤ منظوم لا مثال له. وقيل: من ذهب. وقيل: من حديد وفيها سلاسل من ذهب. والبدن بدن الإنسان، والبدن الدرع القصيرة. قال:
ترى الأبدان فيها مسبغات ** على الأبطال والكلب الحصينا

يعني: الدروع. وقال عمرو بن معدي كرب:
أعاذل شكتي بدني وسيفي ** وكل مقلص سلس القياد

وكانت له درع من ذهب يعرف بها، وقيل: نلقيك ببدنك عرياناً ليس عليك ثياب ولا سلاح، وذلك أبلغ في إهانته. وقيل: نخرجك صحيحاً لم يأكلك شيء من الدواب. وقيل: بدناً بلا روح قاله مجاهد. وقيل: نخرجك من ملكك وحيداً فريداً. وقيل: نلقيك في البحر من النجاء، وهو ما سلخته عن الشاة أو ألقيته عن نفسك من ثياب أو سلاح. وقيل: نتركك حتى تغرق، والنجاء الترك. وقيل: نجعلك علامة، والنجاء العلامة. وقيل: نغرقك من قولهم: نجى البحر أقواماً إذا أغرقهم. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون من النجاة وهو الإسراع أي: نسرع بهلاكك. وقيل: معنى ببدنك بصورتك التي تعرف بها، وكان قصيراً أشقر أزرق قريب اللحية من القامة، ولم يكن في بني إسرائيل شبيه له يعرفونه بصورته، وببدنك إذا عنى به الجثة تأكيد كما تقول: قال فلان بلسانه وجاء بنفسه.
وقرأ يعقوب: ننجيك مخففاً مضارع أنجى. وقرأ أبيّ، وابن السميقع، ويزيد البربري: ننحيك بالحاء المهملة من التنحية. ورويت عن ابن مسعود أي: نلقيك بناحية مما يلي البحر. قال كعب: رماه البحر إلى الساحل كأنه ثور. وقرأ أبو حنيفة: بأبدانك أي بدروعك، أو جعل كل جزء من البدن بدناً كقولهم: شابت مفارقه. وقرأ ابن مسعود، وابن السميقع: بندائك مكان ببدنك، أي: بدعائك، أي بقولك آمنت إلى آخره. لنجعلك آية مع ندائك الذي لا ينفع، أو بما ناديت به في قومك. ونادى فرعون في قومه فحشر فنادى فقال: أنا ربكم الأعلى، ويا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري. ولما كذبت بنو إسرائيل بغرق فرعون رمى به البحر على ساحله حتى رأوه قصيراً أحمر كأنه ثور.
لمن خلفك لمن وراءك علامة وهم بنو إسرائيل، وكان في أنفسهم أن فرعون أعظم شأناً من أن يغرق، وكان مطرحه على ممر بني إسرائيل حتى قيل لمن خلفك آية. وقيل: لمن يأتي بعدك من القرون، وقيل: لمن بقي من قبط مصر وغيرهم. وقرئ: لمن خلفك بفتح اللام أي: من الجبابرة والفراعنة ليتعظوا بذلك، ويحذروا أن يصيبهم ما أصابك إذا فعلوا فعلك. ومعنى كونه آية: أن يظهر للناس عبوديته ومهانته، أو ليكون عبرة يعتبر بها الأمم. وقرأت فرقة: لمن خلقك من الخلق وهو الله تعالى أي: ليجعلك الله آية له في عباده. وقيل: المعنى ليكون طرحك على الساحل وحدك، وتمييزك من بين المغرقين لئلا يشتبه على الناس أمرك، ولئلا يقولوا لادعائك العظمة: إنَّ مثله لا يغرق ولا يموت، آية من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره، وإنَّ كثيراً من الناس ظاهره الناس كافة، قاله الحسن. وقال مقاتل: من أهل مكة عن آياتنا أي: العلامات الدالة على الوحدانية وغيرها من صفنات العلى، لغافلون لا يتدبرون، وهذا خبر في ضمنه توعد.

.تفسير الآية رقم (93):

{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)}
لما ذكر تعالى ما جرى لفرعون وأتباعه من الهلاك، ذكر ما أحسن به لبني إسرائيل وما امتن به عليهم، إذ كان بنو إسرائيل قد أخرجوا من مساكنهم خائفين من فرعون، فذكر تعالى أنه اختار لهم من الأماكن أحسنها. والظاهر أنّ بني إسرائيل هم الذين كانوا آمنوا بموسى ونجوا من الغرق، وسياق الآيات يشهد لهم. وقيل: هم الذين كانوا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل قريظة والنضير وبني قينقاع، وانتصب مبوأ صدق على أنه مفعول ثان لبوأنا كقوله: {لنبوئنهم من الجنة غرفاً} وقيل: يجوز أن يكون مصدراً. ومعنى صدق أي: فضل وكرامة ومنة {في مقعد صدق} وقيل: مكان صدق الوعد، وكان وعدهم فصدقهم وعده. وقيل: صدق تصدّق به عليهم، لأن الصدقة والبر من الصدق. وقيل: صدق فيه ظن قاصده وساكنه. وقيل: منزلاً صالحاً مرضياً، وعن ابن عباس: هو الأردن وفلسطين. وقال الضحاك وابن زيد، وقتادة: الشام وبيت المقدس. وقال مقاتل: بيت المقدس. وعن الضحاك أيضاً: مصر، وعنه أيضاً: مصر والشام. قال ابن عطية: والأصح أنه الشام وبيت المقدس بحسب ما حفظ من أنهم لم يعودوا إلى مصر، على أنه في القرآن كذلك. {وأورثناها بني إسرائيل} يعني ما ترك القبط من جنات وعيون وغير ذلك. وقد يحتمل أن يكون وأورثناها معناها الحالة من النعمة وإن لم تكن في قطر واحد انتهى. وقيل: ما بين المدينة والشام من أرض يثرب ذكره علي بن أحمد النيسابوري، وهذا على قول من قال: إن بني إسرائيل هم الذين بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم. ولما ذكر أنه بوّأهم مبوّأ صدق ذكر امتنانه عليهم بما رزقهم من الطيبات وهي: المآكل المستلذات، أو الحلال، فما اختلفوا أي: كانوا على ملة واحدة وطريقة واحدة مع موسى عليه السلام في أول حاله، حتى جاءهم العلم أي: علم التوراة فاختلفوا، وهذا ذم لهم. أي أن سبب الإيقاف هو العلم، فصار عندهم سبب الاختلاف، فتشعبوا شعباً بعدما قرؤوا التوراة. وقيل: العلم بمعنى المعلوم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، لأن رسالته كانت معلومة عندهم مكتوبة في التوراة، وكانوا يستفتحون به أي: يستنصرون، وكانوا قبل مجيئه إلى المدينة مجمعين على نبوّته يستنصرون به في الحروب يقولون: اللهم بحرمة النبي المبعوث في آخر الزمان انصرنا فينصرون، فلما جاء قالوا: النبي الموعود به من ولد يعقوب، وهذا من ولد إسماعيل، فليس هو ذاك، فآمن به بعضهم كعبد الله بن سلام وأصحابه. وقيل: العلم القرآن، واختلافهم قول بعضهم هو من كلام محمد، وقول بعضهم من كلام الله وليس لنا إنما هو للعرب. وصدق به قوم فآمنوا، وهذا الاختلاف لا يمكن زواله في الدنيا، وأنه تعالى يقضي فيه في الآخرة فيميز المحق من المبطل.